- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
يتضح لقارئ رواية أحمد سعداوي الأخيرة «باب الطباشير» أن صاحب رواية «فرانكشتاين في بغداد» (2013) التي فازت بجائزة البوكر لعام 2014، أراد مرة أخرى خوض تجربة الأسطورة إطاراً سردياً. بدلاً من أسطورة «فرانكنشتاين» الأوروبية (وليس فرانكشتاين) تحضر هنا الأسطورة السومرية. يحضر الموروث العراقي القديم بدلاً من الموروث المستورد. ولا شك أن النقلة مهمة لما تحمله من دلالات، سواء على مستوى الاختيار التراثي أو على مستوى العمل الروائي نفسه. الاختيار التراثي يحمل تبيئة للأحداث والشخصيات ضمن إطار محلي وإن كان بالغ القدم، يرسخ هوية ثقافية ويؤكد لوناً من الانتماء. أما على مستوى العمل الروائي فالدلالة الأسطورية مهمة بوصفها محركاً للأحداث والشخصيات، وراسماً لأبعاد العمل ككل. «باب الطباشير» هو المدخل إلى عالم التعاويذ السومرية التي يفترض أن عالم آثار عراقياً وجدها وسعى لإقناع الشخصية الرئيسية في القصة، وهو الشاب العراقي علي ناجي، بتأثيرها وضرورة السير على هداها للانعتاق من العالم المحيط أو المعاش.
قبل الدخول في تفاصيل الرواية، أود أن أشير إلى أنني، وبالصدفة، كنت قد قرأت كتاب الباحث العراقي سعيد الغانمي «فاعلية الخيال الأدبي: محاولة في بلاغية المعرفة من الأسطورة حتى العلم الوصفي» الذي فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب. الكتاب دراسة في علاقة الأسطورة بالخيال الأدبي، وهي هنا الأسطورة السومرية والبابلية. يحتذي الغانمي حذو الناقد الكندي نورثروب فراي بدراسته للعلاقة بين الأدب والكتاب المقدس (التوراة والإنجيل). يقول الغانمي في مقدمة الكتاب: «لقد تعود القارئ على قراءة نصوص الأدبين السومري والبابلي قراءة أثرية، أعني أركيولوجية، يرمم فيها الباحثون نصوص الأدب الذي يقرؤونه، ويشيرون إلى الطبقات التاريخية التي تولد فيها؛ لكنهم نادراً، بل أكاد أقول لم يقترحوا مرة واحدة قراءة نقدية حديثة، تستثمر أدوات التحليل المتاحة للانفتاح على أفق جديد».
وكان من الطبيعي أن أستعيد ما قاله الغانمي وأنا أقرأ محاولة سعداوي توظيف الأسطورة السومرية في بناء عمل سردي لتشابه المسعيين على هذا المستوى، أي مستوى الاستعادة الإبداعية للأساطير العراقية القديمة، مع الاختلاف البين والحتمي بين عمل فكري نقدي وآخر أدبي سردي.
قراءة الموروث السومري من باب المتخيل تتمثل هنا من خلال باب الطباشير المرسوم على الجدار، جدار السجن والمستشفى وغيرهما، بوصفه منعتقاً إلى عوالم سحرية يمكن للمرء، حسب الأسطورة، أن يلج من أحدها إلى الآخر ليعيش حيوات متعددة. المؤمن بتلك الأسطورة والمروج لها هو الدكتور واصف، الآثاري السابق والعقلاني الذي يصل إلى حالة من الهذيان تشكك بسلامته العقلية. ولكن في حين يدعو واصف للإيمان بذلك المنعتق يقف الآخرون إما مشككين أو رافضين لتلك التصورات. يمثل علي ناجي أحد المشككين أو المراوحين في موقفهم، أما ليلى معشوقة علي فترفض ذلك تماماً وتراها «فكرة جميلة للفرار السهل من المسؤوليات». أما المسؤوليات فهي الأوضاع السياسية والإنسانية في عراق صدام وما بعده، العراق الذي عرف الدمار والتشريد والسجون وتسلط النخب العسكرية ومعاناة البقية وصمتهم واستسلامهم لما يجري. يؤكد ذلك المونولوج الافتتاحي للرواية بصوت علي ناجي نفسه، وهو يقبع في زنزانة يخاطب منها مساجين آخرين يتضح تدريجياً أنهم كل القراء أو كل أهل البلد: «هل أنتم نائمون؟ لماذا لا يرد علي أحد؟ لقد شتمتكم في بداية كلامي ولم أتلق اعتراضاً؟ هل بلغ بكم الاستسلام حدوده القصوى؟». ناجي هنا، كما هم مستمعوه: «ميت حي»، تماماً كما هي شخصيات ت. س. إليوت في قصيدة «الأرض اليباب» التي تنعى أوروبا ما بعد الحرب الأولى.
غير أن أسطورة باب الطباشير، كما هي أسطورة «الملك الصياد» في نهاية قصيدة إليوت، تمثل فرجة محتملة للخروج من بلد تحول إلى زنزانة أو كاد. الرواية ككل سيناريو للأحداث أتاحته فكرة العوالم الأخرى، أي فكرة أن من الممكن التسلل إلى خارج ذلك الظلام المحيط. تاريخ العراق منذ عهد صدام حسين يسير هنا في خط مختلف عما عرفنا، يرتسم في سيناريو بديل. يتضح ذلك من سرد المتخيل التاريخي للأحداث: «ثم حدث في أواخر عام 1995 أمر مفاجئ. لقد تقدمت القوات الشعبية السنية بسرعة حتى وصلت إلى أعتاب كربلاء، محررة القرى السنية في بابل... في أواخر العام 1996 حدث احتكاك آخر داخل المعسكر الصدامي المفترض، أدى إلى انفصال قوة قتالية كبيرة في الموصل عن الإدارة المباشرة لصدام... في الأسبوع نفسه ذكر بيان صادر عن الجامعة العربية أن صدام لم يعد مؤهلاً لقيادة بلد موحد...». هنا تبرز أحداث وتظهر قيادات غير التي تحدث عنها التاريخ. ومع أن ذلك ليس سوى احتمالات طباشيرية قابلة للمحو بسهولة، فإنها تصنع المتخيل القابل لتغيير الأذهان باتجاه مستقبل آخر يمكن صنعه من خلال أبواب أكثر صلابة وواقعية.
رواية «باب الطباشير» رواية نخبوية بامتياز، رواية ستجد شريحة واسعة من القراء في تقديري صعوبة في استيعاب نقلاتها السردية من متحدث إلى آخر ومن شكل مونودرامي إلى سارد عليم، إلى جانب ارتداداتها الزمنية التي تستوجب العودة إلى ما سبق لربط الأحداث أو اكتشاف الصلات بين الشخصيات، وهذا ما ليس بمقدور كل قارئ فعله، أو ما ليس كل قارئ على استعداد للقيام به. لكن مما لا يقل صعوبة هو التفاعل مع المضمون الأسطوري ورمزيته القائمة على تداخل الميتافيزيقي -السحري أو السوريالي مع الواقعي. وإذا كان مما يعين القارئ أو يطمئنه أن من شخوص الرواية من لم يقتنع بتلك الأبعاد الغامضة، أي من يخفف من ضغط المطالبة بتصديق ما يحدث، فإن وجود تلك الأبعاد سيظل قائماً ومحيراً لكثير من القراء. لقد شعرت بتلك الحيرة وكدت أتوقف عن القراءة أكثر من مرة، لكن مردود الاستمرار كان وافراً بالنظر لطموح الرواية إلى الابتكار من ناحية ومواجهة الأوضاع القائمة على مختلف المستويات من ناحية أخرى. ومع ذلك يظل السؤال ملحاً، هو: كم هم القراء الذين سيجدّون في القراءة بحثاً عن ذلك الذي يلوح مع تقدم السرد وتوالي الأحداث!
المقالات
كتابات وآراء
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر