- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
أنا طيرٌ
لم يولد في عش
فطار إلى أقاصي العالم
بعيدا عن السرب
كما هي الريحُ، كما هو الضوءُ
شريدٌ يحلقُ
في الأعالي فوقَ عجائب البشرِ
اختار الضوءُ لهُ اسم
والريحُ أرستهُ في وطنٍ
ليست فيهِ أرض.
لقد انسلخ الشاعر من كل الأمكنة ليكون مكانا وحده يمارس الحياة به في مختلف تجلياتها، مكانا يحترم الآخر ويعظم إنسانيته وحريته ووجوده، إذ تبقى ذاكرته مختنق بأمكنة ما يسمى الوطن تقتل إنسانية أهلها وتختلق كل ما من شأنه أن ينفيها ويسجنها:
سَلَختُ نفسي من جسدِ القوم
كما تُسلَخُ فروةَ الشاةِ بعدَ الذبحِ
وقال:
الوطنُ منفى لم تَخترهُ
فارحلْ إلى منفاك،
وإن لم يَطِب لكَ اشرعْ في رحلةٍ
تأخذك إلى منفى آخر
وآخر .. وآخر
حتى تهبط أو تصعد
بعيداً
عن هذا التيه.
الأمكنة هنا متعددة الأوجه والأشكال موزعة بين منافي وأوطان ونساء وآخرين، الشاعر/ المكان لا ينتمي إليها قدر انتمائه لحضوره الوجودي في هذه الحياة، هو وحده لا تعنيه البلاد ولا اللغات ولا الأديان ولا الألوان ولا الأشكال:
شئتُ أن لا أكون مكبلاً بعرقٍ أو مطبخٍ
أو لغةٍ تحجبُ عنّي
رؤيةَ الآخرين.
في هذا المجموعة يرسخ الشاعر فكرته الأساسية "أنا المكان، والمكان أنا" وكل شيء خلا ذلك لا أملكه ولا يملكني، وهو يصر إصرارا واضحا وجليا في كل نصوصه على ذلك، فالمدينة وإن عشقها سرعان ما ينفلت منها إلى أخرى، والمرأة وإن طاردته بذكريات لقاءاتها الحميمية سرعان ما يرحل عنها:
مدينتي الضّالة..
تعب البعدُ من البعدِ
واستشرى الشوقُ بأشجانِكِ
أعلمُ أنكِ ستدركينني
فإن عثرتِ عليّ وتسنى لكِ
أن تحاصريني بطوقِ أحاسيسك
سأستسلمُ
لكن
إلى حين.
وقال:
عبرتُ جسورَ جسدِك
ولم يستوقفني شيءٌ إلا تلك القنطرة
حينَ همستِ لي
إقفزْ.. إسبحْ
فمائي مباحٌ لكَ هذه الليلة
فعلتُ
حتى أدركَني العمقُ
وألبسني
عباءة الرحيل.
حتى حنين وشوق الشاعر إلى بيت العائلة، إلى أمه وأبيه، إلى ذلك العالم الطفولي الرائق، يأتي محملا بالألم بحثا عن مدينة/ مكان ضآل، وربما تأخذنا قصيدته "الذاكرةُ/ حرباءٌ تتلونُ بلونِ الحاضر" إلى ذلك الفضاء وذاكرته التي تنتهي بالرحيل:
على طريقِ الرحيلِ
أجرُّ معي سلةَ ذكريات
مليئةً بأيامي وبضعةِ حباتٍ من الأفكارِ
بأكياسٍ من الأحلامِ وأوقياتٍ من الأمكنةِ
أُحَضِّر منها بوصلةً
تهديني السبيلَ كلما احترتُ
بين الطرقات.
وتتشارك اللغة مع الشاعر/ المكان تجلياته فهي وسيلة لنسج ما يعتمل في المخيلة وجمعه في تكوينات كل تكوين لوحة متصلة منفصلة، فهو إذ يقسم المجموعة إلى خمسة عناوين تندرج تحتها مجموعة من النصوص، لا يقسم أو يدرج جزافا، ولكن وفقا لبنية درامية متصاعدة، تسعى إلى تجسيد هيكل الشاعر/ المكان يسميه ويسمه، حتى ليضعه بالنهاية في مواجهة الموت/ الحقيقية الوحيدة التي تشتعل أسئلتها ولا أجوبة ولكن حيرة وتوجس:
الموتُ يتوعدني بسرين:
إلى أين سيأخُذَني؟
ومتى؟
إن أهم ما يميز نصوص العبدلي في هذه المجموعة وأيضا في مجموعتيه السابقتين أنها مشغولة بعوالم ذات شاعرها، بتساؤلات وجوده في هذه الحياة، بتقلباته ومواجهاته، برؤاه وأفكاره، تضرب في الأرض شغفا وحبا وسعيا إلى جماليات ربما عابرة أو متخيلة وربما حاضرة وتريد القبض عليها، ليست مشغولة ببناء أو تقنية أو أسلوب أو صورة أو مشهد أو أي من تلك الأمور التي غالبا ما ينشغل بها الشعراء بحثا عن خصوصية نصوصهم، لذا فهي نصوص بقدر عمقها وعمق دلالاتها وإيحاءاتها بسيطة ونقية.
المقالات
كتابات وآراء
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر