الرئيسية - ثقافة وأدب - إبراهيم السامرائي وإبحار جديد إلى عالم المتنبي الشعري
إبراهيم السامرائي وإبحار جديد إلى عالم المتنبي الشعري
الساعة 10:50 مساءاً (الأحرار نت / قراءة ودراسة: د. محمد عبدالرحمن يونس:)
أبو الطيب المتنبي (أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي، ( 303ــ 354هـ/ 915ــ 965)، (مالئ الدنيا وشاغل الناس)، أول شاعر عربي استطاع أن يحتل مكانة مرموقة في ديوان الشعر العربي القديم والحديث والمعاصر، لم يصل إليها أيّ شاعر عربي آخر، وأول شاعر عربي نالت أشعاره حظاً وافراً من الدراسة والتحليل والمقارنة.

وعلى الرغم من كثرة الدراسات الأكاديميّة التي درست بنية خطابه الشعري، وعلاقته بأوضاع مجتمعه، فإنّ هذا الخطاب لا يزال قابلاً لمزيد من الدرس والتحليل، نظراً للقيمة الفنيّة الجماليّة التي وسمت هذا الخطاب، ونظراً للقيم الإنسانيّة التي دعا هذا الخطاب إلى تكريسها من شموخ وعزٍ وكبرياء، وإحساس بالعظمة قلّما نجد له مثيلاً في تاريخ الأدب العربي شعراً ونثراً.

ومن أحدث الدراسات التي حاولت أن تبرز بعض سمات الخطاب الشعري عند المتنبي دراسة الشاعر والباحث الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائيّ الموسومة بـ "في مجلس أبي الطيّب المتنبي" .

وتأتى هذه الدراسة عبر سجال نقديّ يديره السامرائيّ، مستحضراً أبا الطيّب المتنبي، وشخصية أخرى لتحاوره، ويطلق عليها أبا الندى، ويجلس الثلاثة جلسة شعرية ليتحاوروا حواراً قوامه شعر المتنبيّ، وموضوعات هذا الشعر. يحتدم الحوار تارة، ويبدو ودياّ حميماً تارة أخرى، يهدف في النهاية إلى تقديم شعر المتنبي بنزعاته الإنسانيّة حيناً، والمتعالية على غيرها حيناً آخر.

يقول السامرائي: "وها أنا أعود إلى شعره باحثاً أتفقّد فيه حاجة تقيم صلة جديدة ليست صداقة ولا عداوة، ولكنّها صلة الإنسان بالإنسان يعاشره فتنعقد بينهما وشيجة رحم مادتها الإنسان. وسأجعل هذه الصلة بيننا قائمة أسأل منها أبا الطيب مستحضراً ما قاله في شعره فألتمس الجواب فيه. وستكون هذه الصلة في مجالس يحضرها أبو الندى يتلو شعر المتنبي، وأنا أسمع فأسأل أبا الطيب فينعقد الحوار. وقد يكون الأمر في غير حوار فيبدي أحدنا ما يراه ويعرضه إلى صاحبه بين يدي أبي الطيب، فإمّا أن يوافق أبو الطيب على ما رأينا وإمّا أن يكون منه موقف خاص" (ص6).

وفي مجلس أبي الطيب المتنبي الذي يعقده السامرائيّ تتلاقى ثلاث رؤى نقديّة تمثّل ثلاثة تيارات فكريّة تحاول أن ترصد مظاهر شعر المتنبي. وهذه التيارات تنتمي إلى ثلاثة أزمنة: زمن معاصر يمثّل الخطاب النقديّ بتياراته المختلفة، ومواقفه المتباينة من شعر المتنبي، يحاول السامرائيّ من خلاله أن يوضّح توجه هذا الخطاب، وأهم أسسه المعرفيّة، وطبيعة رؤيته وتقييمه لأشعار المتنبي، وزمن آخر تمثّله شخصية يطلق عليها السامرائيّ (أبا الندى)، تقوم هذه الشخصيّة بدور الراوي، أو السارد الذي ينشد أشعار أبي الطيب المتنبي، ثمّ يبثّ رؤيته النقديّة حول هذه الأشعار، ويمكن أن تمثّل هذه الرؤية التيارات والمواقف النقديّة التي تزامنت مع شعر المتنبي، سواء أكانت متعاطفة معه، واضعة إياه في أعلى قمم الشعر العربي، أو معادية له، منقصة من قيمته الفنيّة والإنسانيّة. وزمن ثالث يمثّله المتنبي، ويبرز من خلاله صوت الأنا الشعري الفاعل الذي يدافع عن نفسه، معتبراً أنّ كل الأصوات المعادية الأخرى هي أصوات تؤسس رؤيتها انطلاقاً من الغيرة والحسد والحقد الدفين على عظمة هذا الصوت الشعريّ وتفرّده.

إنّ مجلس السامرائيّ وأبي الطيّب المتنبي وأبي الندى هو الصورة النديّة للمجالس الأدبيّة الكثيرة عبر العصور التاريخيّة، إنه أشبه بندوة أدبيّة يتحاور فيها ثلاثة أدباء حول شعرية المتنبي، ويمثّلون حركة النقد العربيّ وتياراته ابتداءً من العصر العباسيّ حتى العصر الحالي، فالسامرائيّ وأبا الندى يستضيفان أبا الطيب المتنبي، ويستنطقانه ليبثّ أحزانه، وإحساسه بالغربة، وعبقريته الشعريّة، وتفرده في آن، ويحاولان من خلال هذا الحوار أن يطرحا مجموعة من الأسئلة التي تحاول أن تنتزع اعترافاً من أبي الطيب يفصح عن ذاته المتعالية، ولماذا هذه الذات الفرديّة متعالية على (النحن الاجتمــاعيّة) أو على (الموضوعي الآخر)، ومن خلال الحوار نستنتج أنّ تضخم (الأنا) عند أبي الطيب يجعلها أحياناً تلغي الآخرين، وتتجاوزهم وتسمو عليهم، وأمام هذه (الأنا) المتشعبة في الزمان والمكان والمالئة لهما، باعتبارها ذاتاً متعالية متفوّقة ونتشويّة، ليس أمام الآخرين إلاّ أن يُغمروا في أمكنة وأزمنة جدّ محدودة.

إنّ تعالي هذه (الأنا) هو الذي سبب له المتاعب طيلة حياته، مع ملوك وسلاطين عصره، ومع مدينته، وحتى مع ذاته نفسها، وهو الذي شرّده ، وطوى به الصحارى والقفار، وهو الذي دفعه ــ بشكل تدميريّ ومتوثب ــ لأن يطمح في أن يكون صاحب إمارة أو ولاية، فلماذا لا تكون هذه (الأنا) على سدّة الإمارة، أو الولاية الكبيرة طالما هي متفوقة على عشرات السلاطين والأمراء الذين يعاصرونها، وعلى بني البشر جميعاً. هذه (الأنا) المتعالية تعالياً نرجسيّاً .

يقول المتنبي:

أيّ محــــلّ أرتقــــــــي ** أيّ عظيـــــم أتقــي وكلّ ما قد خلــــق الله ** ومـــا لــــم يخــــلقِ محتقــر في همتــــــي ** كشعرة في مفرقي (ص 15)

إنّ (الأنا المعرفي) عند المتنبي، الطموحة إلى الثراء والسيادة والسلطة، تتعالى على الشرائط الاجتماعية والإنسانيّة والحضارية التي سادت الزمان الذي عاشه المتنبي، وهي تتفوّق معرفياً وفناً شعرياً على كل بني البشر، وليمت من مات غيظاً:

أنا ترب الندى وربّ القوافي ** وسمام العدى وغيظ الحسود (ص 14).

وتصبح هذه الذات رائيّة، عالمة عارفـــــة، معرفة الأنبياء. هذه الذات التي تعايش مجموعــــــــة من الأجلاف الرعاع تحاول جاهدة أن تخلصهم من خطاياهم وهمجيتهم، وبالتالي فإنّها غريبة غربة روحيّة ومعرفيّة وإنسانية، إنّها كغربة المسيح بين اليهود:

ما مقامي بأرض نخلة إلاّ ** كمقام المسيح بين اليهود (ص 15)

ولا يرضى المتنبي لغربته أن تكون أقلّ معنى، وقيمة إنسانيّة عن غربة الأنبياء، إنّها كغربة النبي صالح بين قومه:

أنا في أمّة تداركــــها الله ** غريب كصالح في ثمود (ص 14).

هذه الغربة الروحيّة، وشعوره بتفوّقه على أبناء زمنه كله، جعلته ــ على غير المألوف ــ متيقناً من أنّه هو الأصل وقومه جميعاً هم الفرع، ولذا فمن الواجب أن يفخروا به بدلاً من أن يفخر بهم، فمصدر اعتزازه بنفسه لا يأتي من الإرث المعرفيّ الإنسانيّ الذي خلفه الأجداد، بل هو متأصل في ذاته المتعالية قبل انتمائه إلى ذوات اجتماعيّة وقبليّة وقوميّة أخـرى:

لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ** وبحسبي فخرت لا بجدودي (ص 13).

وها هو يرثي جدته، مستنفراً عظمة (أناه الفرديّة)، يقول: ولو لم تكوني بنت أكرم والد ** لكان أباك الضخم كونك لي أمّا (ص 13).

وأمام بروز هذه (الأنا) وتعاليها على قومها، يشير السامرائيّ إلى مواقف بعض نقاد المتنبي الذين عابوا عليه هذه النرجسيّة، ويستجمع هذه المواقف قائلاً: (ألا ترى معي، أبا الطيب، أنك تجاوزت الحدّ وجعلت الشرف لك وحدك، وأنّ قومك عيال عليك، وأن آباءك، وأجدادك ليغرفون من بحرك ويقيمون مجدهم من مجدك. وكأنّ أبا الندى قد وقف على (أنا) في هذه القصيدة، وأحسّ أنك قد تجاوزت فيها الحدود، فاحتشم في حضرتك فطواها وأبى أن يتلوها). (ص13)

والسؤال الذي يمكن أن يُطرح: ما هي أهم أسباب غربة (أنا) المتنبي داخل الموضوعي الجماعي؟ هـــل هي الغربة الروحيّة أم الاجتماعيّة أم السياسيّة؟ أم كانت هذه الغربة نتيجة للإحباطات والخيبات الكثيرة التي رافقت مسيرة المتنبي؟

إنّ ذات المتنبي الطامحة لم يُقدر لها أن تُوضع في المكان اللائق بها نتيجة لظروف سياسيّة كانت أقوى منها، في حين أنّ الآخرين الذين لا يرقون إلى مستواها هم الأقوياء والسادة والحكام والأغنياء، وبأيديهم مقاليد كل شيء.

لقد كان المتنبي يعتقد أنّه أفضل من أيّ خليفة أو ملك أو أمير من أمراء عصره، فقد كان يشعر وأنّه في مجلــــس سيف الدولة الحمداني ــ صاحب حلب ــ (علي بن عبد الله بن حمدان التغلبي الربعي، 303ــ 356هـ / 915 ــ 967)، وفي مجلس كافور الإخشيدي ــ صاحب مصر ــ (292 ــ 357 هـ / 905 ــ 968 )، عظيماً مثلهما، بل أكثر منهما، فلماذا لا يكون الأمير المتوّج فوق عرش مدينة أو ولاية؟ ولماذا لا يتوّج إمارته الشعريّة بالإمارة السياسية التي تمكّنه من استلام مقاليد السلطة. وهنا يمكن القول: إنّ سرّ عذاب المتنبي الدفين، وحزنه الراعف هو إحساسه بالاستلاب السياسي، وحرمانه من كرسي السلطة، ولو أنّ المتنبي لم يستنفر كل طموحه لأن يكون أميراً أو صاحب ولاية لكان أكثر عظمة إنسانيّة، ولكانت صورته التاريخيّة أشدّ إضاءة. هو يعتقد أنّه عظيم، ولم ينكر أحد عليه ذلك، حتى أعداؤه كانوا في قرارة أعماقهم يعترفون بقامته الشعريّة المديدة، ويحسدونه على هذه القامة الشامخة، لكن أن يوظّف قسماً من طاقاته الشعريّة الجماليّة، ويقف أمام أبواب السلاطين مستجدياً علّهم يمنحونه إمارة أو ولاية، فإنّ ذلك سيقلل من اعتزازه الإنسانيّ، وسيحطّ من عظمته، وسيرفع من شأن هؤلاء السلاطين في آن، وهنا تكمن نقطة الضعف التي سمحت لأصدقاء المتنبي وأعدائه وحساده معاً أن يوجّهوا سهام نقدهم إلى صدره من خلالها، ويتساءلوا: هل يحقّ له أن يزهو بأثواب التيه والفخار على بني قومه ويحتقرهم في آن؟ وهل يبقى قوله الشعريّ الآتي صحيحاً؟:

وكلّ ما قد خلق الله ** وما لــم يخلــــــق محتقر في همتـي ** كشعرة في مفرقي وهاهو المتنبي يمدح أحد الأمراء مستعطفاً:

أرجو نداك ولا أخشى المطال به ** يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا (ص 27).

ولقد كرّس المتنبي كثيراً من قصائده الشعريّة لمدح أشخاص قد يكونون عاديين ولم يقدّموا لأمتهم شيئاً يذكر، وربمالا يستحقون مدحاً، ومن هؤلاء الممدوحين: (عبيدالله بن خلكان، وأبو المنتصر شجاع بن محمد المنبجي الرضي الأزدي، وعلي بن أحمد الطائيّ، ومحمد بن زريق الطرسوسي، وعبدالله بن يحي البحتري، ومساور بن محمد الرومي، ومحمد بن إسحاق التنوخي، والحسن بن إسحاق التنوخي). (ص 20)، وآخرون كثيرون.

وإذا كان المتنبي قد مدح أشخاصاً بما ليس فيهم، ومدح بعض الطغاة والظلمة فإنّه مدح بعض العلماء والقضاة الذين عرفوا بعلمهم وكرمهم، فها هو يمدح القاضي عبدالوهاب المالكيّ الذي كان من أهل العلم والفضل، والذي هجر مدينة بغداد لأنّه لم يجد فيها أسباب العيش الكريم. يقول فيه:

قليل الكرى لو كانت البيض والقنا ** كآرائه ما أغنت البيض والزًّغف

يقوم مقام الجيش تقطيب وجهـــه ** ويستغرق الألفاظَ من لفظه حرف وإن فقد الإعطاء حنّت يمينه ** إليه حنين الإلف فارقـــــــه الإلف (ص 40).

وإذا كان الدكتور السامرائيّ وشخصية أبو الندى التي تحاور المتنبي وتستنطقه، يريان أنّ المتنبي أكثر من مديح أشخاص وأمراء يستحقونه ولا يستحقونه، فإنّ ثمّة رؤية نقديّة تدافع عن المتنبي، يثبتها السامرائيّ، ويدفع أبا الطيب المتنبي ــ من خلالها ــ لأن يبرر لنفسه هذا الكمّ الهائل من المديح.

يقول السامرائيّ : (قال أبو الطيب: تنكرون علينا أن نسلك هذا الطريق فيكون منّا نثر اللآلئ الفرائد بين يدي الممدوح وتقرّون عيناً بذلك، وتأبون أن يكون منا سؤال؟ فأنا ابن الكرام البررة. ثمّ ألا ترون أنّ مثلي لا يكون له أن يكسب العيش بمهنة السوقة، أأكون حائكاً أم أكّاراً أم نحو هذا، وأنتم تدرون ما الحائك وما الأكّار؟). (ص 27 ــ 28).

غير أنّ هناك رؤية نقديّة مغايرة لما قاله المتنبي وهي تلك التي يتبناها تيار من النقاد العرب الذين عابوا على المتنبي مديحه الذي رفع ممدوحيه إلى مرتبة عالية من الشرف والسؤدد لا يستحقونها، ويثبت أبو الندى هذه الرؤية قائلاً: (لقد جرت أبا الطيب على أدبك فأوردته موارد الهلكة وجعلت المناكير المجاهيل من ممدوحيك شموساً كزريق هذا [محمد بن زريق الطرسوسي] وعبدالله بن يحي البحتري وغيرهما ما أسخاك فيما جدت فيه من ألقاب وإني لأتأدب بأدب الذكر الحكيم الذي قرأت فيه قوله ــ عزّ من قائل ــ {ولا تنابزوا بالألقاب … }. (ص 30).

ويتابع السامرائيّ ما نسي أن يضيفه أبو الندى على هذه الرؤية حتى تتضح: (قلت: كان عليك أبا الندى أن تنشد قول الشاعر القديم في الكنية واللقب:

أكنيه حين أناديه لأكرمه ** ولا ألقّبه والسوأة اللقبا ومن هؤلاء الأمراء المجاهيل المناكير أبو عبادة أخو عبدالله بن يحي البحتري، ومساور بن محمد الرومي، وهذا الرومي الأمير قد أطلت فيه وزدت حتى قلت:

أنّ القريض شج بعطفي عائذ ** من أن يكون سواءك الممدوح

لقد جلّ الشعر عن أن يكون حبيساً على هذا الرومي وحده (ص 30).

وفيما بعد كانت خيبة المتنبي كبيرة في الذين مدحهم، وها هو يعبّر عن هذه الخيبة قائلاً:

ودهر ناسه ناس صغار ** وإن كانت له جثث ضخام … أرانب غير أنّهم ملوك ** مفتحة عيونهم نيام (ص 37ــ 38).

وعلى الرغم من حضور المتنبي الطاغي في فضاءات الحياة الأدبيّة والفكريّة في عصره، إلأّ أنّه كان هنــــــاك حضور قوي يوازيه وربما يفوقه وهو الحضور القوي للقادة والأمراء في دولة عربيّة متشرذمة ضعيفة متهاوية، فقد كثرت الدويلات المنفصلة عن الدولة المركزيّة ببغداد، وظهر القادة المستبدون الذين عاثوا في شعوبهم سلباً ونهباً واغتصاباً للخيرات واحتقاراً لكرامة وكبرياء الإنسان، وبدأت الدولة في الانهيار الشامل الذي أصاب بنيتها وتركيبتها السياسية والاجتماعية، وفقدت بغداد مركزيتها السياسية القوية في أيام الخلفاء العباسيين: المقتدر بالله بن المعتضــــــــد ( 295هـ /908 ــ 320 هـ / 932)، والقاهر بن المعتضد ( 320 هـ / 932 ــ 322 هـ / 934)، والراضي بالله بن المــــقتدر ( 322هـ / 934 ــ 329هـ / 940)، والمتقي لله بن المقتدر ( 329هـ / 940 ــ 333هـ / 944)، والمستكفي بالله بن المكتفي (333هـ / 944 ــ 334هـ /945)، حيث أصبحت مقاليد السلطة بيد البويهيين في مدينة الريّ. وفي مصر وسوريا أحكم الإخشيديون قبضتهم في أعقاب الدولة الطولونيّة، وفي حلب أسس الحمدانيون إمارة مستقلة لمع فيها الأمير سيف الدولة الحمداني الذي قصده المتنبي ومدحه بأجمل القصائد وأعذبها.

وقد أسهم انفصال هذه الدويلات المستقلة عن الدولة المركزيّة ببغداد في أن يصبح للقادة المستقلين حضور طاغ بعد أن خرّب الفساد الدولة في إدارتها ومؤسساتها وجيوشها، بالإضافة إلى الأطماع الخارجيّة التي تعرّضت لها الدولة مــــن البيزنطيين والأحباش. وقد عرف المتنبي في هذه الدويلات كثيراً من القادة والأمراء ومدحهم مديحــــاً تكسبياً في بادئ الأمر، ثمّ هجاهم هجاءً لاذعاً بعد أن خذلوه وردوه خائباً. فها هو يهجو كافور الإخشيدي قائلاً:

أكلّما اغتال عبد السوء سيّده ** أو خانه فله في مصر تمهيد

صار الخصيّ إمام الآبقين بها ** فالحرّ مستعبد والعبد معبود

لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه ** إنّ العبيد لأنجاس مناكيد (ص 128).

… و: وإنّ ذا الأسود المثقوب مشفره ** تطيعه ذي العضاريط الرعاديد .

جوعان يأكل من زادي ويمسكني ** لكي يُقال عظيم القدر مقصود (ص 138).

إنّ هذا الحضور القويّ للأمراء والقادة ظلّ يطارده طيلة حياته، ولم تمنحه المصادفات فرصة واحدة لأن يكون حاكماً مثل هؤلاء القادة، ومالكاً وصاحب سطوة ونفوذ، وحتى بلاط سيف الدولة، البلاط الذي قرّب المتنبي، واعتبره الشاعر الأول بين شعرائه لم يمنحه فرصة لأن يكون صاحب ولاية، بل وجد فيه أعداءً حساداً خافوا من مطامحه الشخصيّة المتوثبة من جهة، ومن أن يزداد سيف الدولة في إيثاره عليهم من جهة أخرى، فأوعزوا صدر سيف الدولة عليــه.

يقول المتنبي معاتباً سيف الدولة:

أزل حساد الحساد عنيّ بكبتهم ** فأنت الذي صيّرتهم لي حسدا (ص 145).

ولم يستطع سيف الدولة أن يزيل حسد حساد المتنبي وينصفه من هؤلاء الحساد لأنهم كانوا جميعاً من أصدقاء سيف الدولة وأقربائه. عندها خرج المتنبي من حلب متفجعاً بصداقة سيف الدولة الذي كان يعتبره أعظم الأمراء وأكثرهم أدباً وتذوقاً للشعر، وأشدهم تمرساً بالحرب والفروسيّة. خرج يائسًا، ومليئاً بالحب والوفاء لسيف الدولة، ومنشداً:

إن كان سرّكم ما قال حاسدنا ** فما لجرح إذا أرضاكم ألم

لقد خرج المتنبي على المجتمع شاهراً سيف المعرفة والفضائل والاعتزاز بالنفس، متمرداً، ورافضاً لكل ما شاهده من سوءات عصره، وسقطات ولؤم ورجال هذا العصر، ولم يكن خروجه خروج المتهورين، بل كان خروج الأدبــــاء والمفكرين الممتلئين وعياً معرفياً، المستوعبين لثقافة عصرهم فكراً وأدباً ولغة.

يقول أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر(ابن خلكان، ت 681هـ/1282م) عن المتنبي: (… اشتغل بفنون الأدب ومهر فيها، وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يُسأل عن شيء إلاّ استشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر، حتى قيل إنّ الشيخ أبا علي الفارسي صاحب الإيضاح والتكملة قال له يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فِعلى؟ فقال المتنبي على الفور: حجلى وظربى. فقال الشيخ أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً فلم أجد). غير أنّ تفوّق المتنبي، وقدراته المعرفيّة، وميزاته الأخلاقيّة لم تكن قادرة على أن تصمد أمام أيّ قائد، مهما كان مرموقاً أو مغموراً، ومن هنا نستطيع أن نفهم غربة المتنبي الروحيّة والإنسانيّة، وخيبته من حكّام عصره.

يقول معبّراً عن هذه الخيبة:

ولا أعاشر من أملاكهم أحداً ** إلاّ أحقّ بضرب الرأس من وثن (ص 139).

ولم تكن خيبة المتنبي من حكّام عصره فحسب، بل كانت خيبة عامــــة على المستوى السياســــــــي والإنساني والاجتماعي ، وبالتالي كانت خيبة من عصره كله، ومن سكان هذا العصر. يقول:

أذم إلى هذا الزمان أهيله ** فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد

وأكرمهم كلب وأبصرهم عمٍ ** وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد (ص 140).

من خلال مجالس الدكتور السامرائيّ وأبي الندى مع أبي الطيب المتنبي، يستنفر السامرائيّ حسّــــــــه النقدي والجمالي، ويحاور المتنبي محاورة المتذوّق لأجمل ما في الشعر العربيّ، العارف لتاريخ هذا الشعر، ولأبعد جمالياته وسقطاته في آن. ومن خلال المحاورة تظهر رؤية السامرائيّ النقديّة من شعراء العربيّة المتميزين: ابن الرومي، أبي تمام، البحتري. وعلى الرغم من إشارة السامرائيّ إلى عدم رضاه عن بروز الأنا (النرجسيّة) عند المتنبي، إلاّ أنّه يراه الشاعر الأهمّ من بين أعلام الشعر العربيّ، ويرفعه على أبي تمام والبحتري وابن الرومي.

يقول السامرائيّ لراوي شعر المتنبي ــ أبي الندى ــ: (ألم تذكر أني حدثتك عنه وقلت فيما قلت أين أبو تمام والبحتري وابن الرومي من أبي الطيب. كان لكل من هؤلاء شعر كثير ولكننا لا نعرف منه إلاّ القليل نجتزئ به عن كثيرهم. ألا ترى ابن الرومي صاحب المطولات التي نيّف في كثير منها على الثلاث مئة أو الأربع مئة، ولكنها غثاء أحوى. وليس لك من شعره إلاّ رثاؤه لبنيه وقوله في البصرة واجتياح الزنج لها، وكلمات أخرى ضاعت في بحر ديوانه الصخّاب. وليس أبو تمام ولا البحتري بأسعد حالاً، فأنت لا تستظهر من كلّ منهما إلاّ أشتاتاً يسيرة، روّج لها أهل صناعة الأدب. أما سمعت أنّ أبا تمام في (حماسته) أشعر منه في شعره؟ وإني ليحزنني أن يبتئس منى أبو الطيب الشاعر الكبير الذي نسي به الناس جمهرة الشعراء الفحول). (ص 19).

غير أنّ تفضيل السامرائيّ لأبي الطيب المتنبي على غيره من الشعراء لا يعني أنّه معجب بكل فضاءاته الشعريّة وموضوعاتها، بل هو يشير إلى هذا الكمّ الهائل من قصائد المديح التي سفحها أمام أناس كثيرين قد لا يستحقونها. فعندما يمدح المتنبي بدراً بن عمار:

لو كان علمك بالله مقسّماً ** في الناس ما بعث الإله رسولا

لو كان لفظك فيهم ما أنزل ** الفرقان والتوراة والإنجيلا (ص 17).

فإنّ السامرائيّ يقول لأبي الندى: (ولا أدري ماذا يقول صاحب مجلسنا شاعرنا الكبير، أليس في قوله من الإغراق والمبالغة التي ليس لها أن تكون من دنيا الواقع؟ هو أنّه شيء من الكفر والتجاوز على خلق الله للناس). (ص 17).

وكأنّي بالسامرائيّ يعاتب المتنبي: يا سيّد الشعراء، المتعالي المتفوّق على زمانه ومكانه بقصائده، القائل:

وما الدهر إلاّ من رواة قصائدي ** إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا (ص 167).

أيها المتفوّق تفوّق القديسين، المتوثّب الجامح أبداً، أما أكان من الضروريّ أن تسقط كثيراً من هؤلاء الممدوحين وأنت المتفوّق عليهم أدباً وشعراً ومعرفة، وأنت القائل:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ** وأسمعت كلماتي من به صمم (ص 56).

أليس مجحفاً بمكانة شاعر محلّق مثلك أن يقف مستجدياً إمارة، أو عطاءً زائلاً؟

وإذ يدخل الباحث والناقد السامرائيّ إلى أبعد فضاءات المتنبي الشعريّة والإنسانيّة، فإنّه يوظّف كثيراً من معارفه النقديّة، ليتعامل معها كمرجعيّة معرفيّة مع خطاب المتنبي الشعريّ، مبيّناً أهم جماليات هذا الخطاب، وأبعادها الرؤيوية، وأهمّ نقاط ضعفه، وليضع بعضاً من نصوص المتنبي أمام إشكاليّة حقيقية تقود بدورها إلى مزيد من التساؤلات التي يمكن أن يطرحها متلقي خطاب المتنبي الشعريّ، وخطاب السامرائيّ النقديّ. ومن هذه التساؤلات:

ــ إلى أيّ مدى يتجلىّ الصدق الوجداني، والجماليّ الفنيّ في خطاب مديحه؟

ــ أليست قصائده في المديح غائيّة ووظيفيّة، هدفها الوصول السريع إلى مكسب آني، قد يكون سلطة أو امتلاكاً؟ وهل وضعته هذه القصائد في المكانة التي كان يطمح إليها حيث قال مادحاً نفسه؟: ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي ** أنا الثريا وذان الشيب والهرم (ص 165).

أم أن هذه القصائد أنزلته من مكانته الساميّة، وهو على أبواب كافور الإخشيديّ مادحاً طامعاً في رضى وولاية، ثّم فيما بعد ساخطاً هجاءً متفرّداً في هجائه، قائلاً؟:

من علّم الأسود المخصيّ مكرمة ** أقومه البيض أم آباؤه الصيد

أم أذنه في يدّ النخاس دامــــية ** أم قدره وهو بالفلسين مردود

أولى اللئام كويفير بمعذرة ** في كل لؤم وبعض العذر تفنيد

وذاك أنّ الفحول البيض عاجزة ** عن الجميل فكيف الخصية السود (ص 138).

وكيف سيقتنع متذوقو وعاشقو أدب المتنبي بصدق قصائده المدحيّة، طالما أنّ صاحبها ينتقل من وضع الممدوح في أعلى مكانة، ثمّ سرعان ما يتطامن هذا الممدوح إلى أدنى منزلة أنه لا يمنح المتنبي أجر مديحه؟ كيف يصبح الشاعر الممتلئ عظمة، المالئ فضاءات الحياة العربيّ الإسلاميّة حضوراً أدبياً طاغياً، وفخراً بنفسه:

وليفخر الفخر إذا غدوت به ** مرتدياً خيره ومنتعله أنا الذي بيّن الإله به الــــــ ** أقدار والمرء حيثما جعله (ص 68).

كيف يصبح متكسباً أمام سلطان أو طاغية، طامحاً إلى منصب سياسيّ؟ كيف يصبح أداة طرب ولهو بين يدي كافور الإخشيدي حين ينشده؟:

أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ** فإني أغني منذ حين وتشرب

… إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ** فجودك يكسوني وشغلك يسلب (ص 106).

وكم هي فجيعة متلقي قصائد المتنبي المدحيّة مريرة عندما يكتشف أنّ بنية هذه القصائد تكشف عن غايات ومطامح تكسبيّة؟

وإذا كانت ثقة المتنبيّ بولاة عصره وحكامه وناسه قد تبددت، وأصيب المتنبي ــ نتيجة هذا التبدد ــ بشروخ بعيدة الغور في خباياه نفسه، فإنّ هذه الشروخ لم تهزمه، لم تهزم (الأنا) المعرفي المتعالي عنده، ولم تهزم (الأنا) البطولي النتشوي المتفرّد في أعماقه وسلوكه وأشعاره، بل زادته دراية بنفسه وبالآخرين، وعزّزت إحساسه بالتفوّق والعظمة. يقول مفتخراً بنفسه:

تغرّب لا مستعظماً غير نفسه ** ولا قابلاً إلاّ لخالقه حكما ولا سالكاً إلا فؤاد عجاجــــة ** ولا واجداً إلاّ لمكرمة طعمــا يقولون لي ما أنت في كلّ بلدة ** وما تبتغي؟ ما أبتغي جلّ أن يُسمى

… وما الجمع بين الماء والنار في يدي ** بأصعب من أن أجمع الجدّ والفهما (ص 59).

هذه هي بعض الموضوعات التي طرحها كتاب الدكتور السامرائيّ (في مجلس أبي الطيب المتنبي). ويبقى شعر المتنبي على الرغم من كثرة دارسيه ونقاده بحاجة إلى مزيد من الدرس والتحليل وكشف الكثير من أبعاده المعرفيّة والإنسانيّة والجماليّة.

يذكر أن الكتاب صدر عن دار الجيل، بيروت.

أ. د. محمد عبدالرحمن يونس - نائب رئيس جامعة ابن رشد في هولندا للشؤون العلمية

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
تفضيلات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً
إنفوجرافيك || تشكيل خلية طوارئ حكومية للتعامل مع أزمة السفينة
دولة رئيس الوزراء الدكتور معين عبدالملك لصحيفة عكاظ
إنفوجرافيك.. رئيس الوزراء الدكتور معين عبدالملك يعود للعاصمة المؤقتة عدن
بحضور رئيس الوزراء.. إنفوجرافيك