- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
في كشك صغير لبيع الكتب محاذٍ لسياج مرأب للسيارات في حي البياع جنوب غربي العاصمة بغداد، قادتني الصدفة إلى معاينة بسطة الكتب المتواضعة، فعثرت على ديوان للشاعر العمودي الراحل موسى النقدي وضع له عنوان (أجنحة النور)، واكتشفت أن غلاف الديوان الأصفر، يخبئ خلفه إهداء إلى الشاعر بدر شاكر السياب، كتب بخط أنيق وواضح العبارة التالية: «هدية إلى الأستاذ الشاعر المبدع بدر شاكر السياب هدية تقدير وفوق الإعجاب.... المؤلف 10-6-1952».
صدفة أخرى محببة، قادتني إلى التعرف على أحمد جواد النقدي نجل أخ الشاعر موسى النقدي فعرضت عليه الديوان والإهداء، فقلّب أحمد الكتاب بهدوء وابتسم بغموض، مستغربا من كيفية حصولي على هذه النسخة، وهو يخبئ تحت ابتسامته حكاية طريفة سمعها من أبيه جواد ومن عمه موسى، مرتبطة بقصة الإهداء تلك.
الحكاية تعود إلى عام 1952. حين اشتراك بدر السياب في المظاهرة المشهورة التي أمسكت بلحظتها صورة متداولة للسياب وهو يعتلي السلم الخشبي الذي يمسك به الشاعر الفريد سمعان.
الحكاية والصورة معروفتان في الأوساط الثقافية العراقية، حيث جوبهت المظاهرة بالشدة من قبل قوات الشرطة حينذاك، وفر السياب هاربا، لكن الشيء غير المعروف هنا هي الوجهة التي هرب إليها السياب. وهو أمر يكشف عنه أحمد النقدي ابن أخ الشاعر موسى النقدي، حيث يقول: إن مقر الاختباء المؤقت للسياب كان في بيت أبيه جواد النقدي، ريثما يتمكن من ترتيب مسألة عودته إلى البصرة، وأثناء وجوده في البيت أهداه الشاعر موسى النقدي ديوانه (أجنحة النور) الآنف الذكر، وبعد أن هدأت الأمور نسبيا والكلام لأحمد، عمد السياب، إلى استعارة، دشداشة (الرداء التقليدي في العراق) مضيفه جواد النقدي، ليتسنى له التخفي في الزي الشعبي بمدينة الكاظمية، تمهيداً للعودة إلى داره في محافظة البصرة بواسطة القطار.
الطريف في الأمر، حسب أحمد، أن والده جواد النقدي، كلما يسرد هذه الواقعة، ورغم مرور السنين فإنه غالبا ما كان يكرر السؤال ذاته: بعيدا عن الشعر والسياب وموسى النقدي، دشداشتي وين صارت (أين دشداشتي)؟، ولعله كان يعني أن المظاهرات والشعر لا يورثان إلا الفقدان!
هذه الحكاية ربما تسحبنا إلى موضوع يتعلق بقضية إهداء الكتب والإصدارات الأدبية في السياق الثقافي العراقي العام، وتضطرنا ربما لطرح سؤال بهذه الصيغة: ترى كم من إهداء أهمل أو ضاع في أروقة الفنادق، أو على البسطات ومقاعد سيارات الأجرة، بقصد أو من دونه، تائها وهو يحمل شذى التعابير الشفافة والحميمة؟!
إهداء الكتب الأدبية ودواوين الشعر ظاهرة شائعة في سياق الثقافة العراقية، والثقافة العربية بالطبع، بين الكتاب والأدباء وبين بعضهم البعض، وهي ظاهرة يختلط فيها الاحترام والتقدير من جانب، والسخرية وعدم الاكتراث من جانب آخر، حتى أن شاعرا معروفا يتندر غالبا من أن أكثر الكتب المهداة التي تصله مصيرها أيدي أطفاله الصغار!
يمكن القول بشيء من الحذر، إن الإهداءات تتوزع عموما على صنفين، الأول يتعلق بإهداءات مشاهير وكبار الكتاب والأدباء ويحظى هذا النوع باهتمام المهدى إليه، أما إهداءات الكتاب الأقل شأنا فغالبا ما تهمل، والثاني يتعلق بورثة الكاتب أو الأديب الراحل، فإنهم يهملون تلك الإهداءات وربما يبيعونها بمجرد رحيل الأب إلى العالم الآخر، لذلك تجدها مرمية على البسطات أو على رفوف المكتبات.
المناسبة تقودنا إلى الحديث عن الببلوغرافي الحلي الراحل الدكتور صباح المرزوق الذي كان مولعا باقتناء الكتب الممهورة بتوقيع مؤلفها، وكان غالبا ما يبحث عن تلك النوعيات من الكتب والإهداءات في المكاتب والبسطيات في شارع المتنبي ببغداد والمكتبات الأخرى في بقية المحافظات، ليضيفها إلى رفوف مكتبته، وكثيرا ما كان يرينا قسماً منها.
أتذكر أنه عرض يوما ديوانا للشاعر علي عبد الأمير عجام عنوانه «يدان تشيران إلى فكرة الألم» كتب عليه إهداء لشاعر معروف وبخط أنيق ولغة لينة ومشاعر رقيقة استوعبت نصف الصفحة الأولى من الديوان تقريبا، لكنها لم تكن كافية ما يبدو لاحتفاظه به، فوجده المرزوق في إحدى بسطات الكتب المتواضعة، أتذكر أن المرزوق قال لي بحسرة: «ماذا يكتب علي عبد الأمير بعد حتى يحتفظ به المهدى إليه؟».
في مهرجان قصيدة النثر الثالث الذي أقيم في محافظة البصرة العام الماضي، همس الناقد الدكتور مالك المطلبي بعد أن أهدي إليه نحو 70 كتابا: «إذا لم أجد أحدا، يعيني على حملها إلى بغداد، سأتركها في الفندق». والمطلبي المعروف بتعليقاته الساخرة، وجديته القاهرة، لم يترك لنا مجالا لكي نأخذ تصريحه على أي محمل.
الحق، كنا نرجح تركها في الفندق، نسبة لعدم قدرته على حملها، رغم حيويته الظاهرة. لكننا لمحنا المطلبي في اليوم التالي من بعيد وهو يجرجر الحقيبة المليئة بالكتب وحده متحاملا على نفسه وبالكاد ساعده أحد الأصدقاء على حملها إلى السيارة.
لقد كان تقديرنا خاطئا.
على أن ثقافة الإهداء، تطورت في السنوات الأخيرة، وانتقلت من فكرة توصيل الكتاب وإهدائه بشكل شخصي إلى ثقافة توقيع الكتاب في حفل أدبي تتم فيه مناقشة الكتاب، ومن ثم توزيعه، ممهورا بتوقيع الكاتب، وهذا التقليد أتاحته بعض المكتبات والصالونات الأدبية وأصحاب دور، حيث يعمدون إلى إقامة حفل توقيع كتاب في بعض المقاهي التي انتشرت في حي الكرادة الراقي في بغداد، مثل مكتبة ومقهى «قهوة وكتاب» ومقهى «رضا علوان».
وغني عن القول: إن الكتاب العراقي ما زال يوزع بنسخ أكثر إذا ما أهدي مجانا، خلافا لإهدائه بثمن مدفوع، ويبدو أن حفل توقيع وتوزيع الكتاب في العراق والإقبال على شرائه لم يتحول بعد إلى ثقافة تنظر إلى الكتاب باعتباره بضاعة أدبية تستحق الشراء ودفع الثمن.
المقالات
كتابات وآراء
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر