- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
في مصر، ستجد في أدبيات الدراسات الجامعية ما يمكن تسميته «أدب الأندلس»، وإن كان المرور عليه يتم بشكل عابر؛ لكنه - مع ذلك - ترك علامات على هذا النوع الأدبي المشحون بأسئلة الماضي، ومساحات الخيال الجامحة.
هذا التحقيق محاولة لسبر أغوار هذه المغازلة الشجية المغوية من زواياها المتعددة، ومن وجهة نظر كوكبة من الكتاب، ترجموا هذه المغازلة إلى عوالم حية في أعمالهم الروائية.
- «أدب الأندلس»
يقول الشاعر والناقد شعبان يوسف، إن مسألة الكتابة المصرية الإبداعية عن مرحلة المسلمين والعرب في الأندلس، ليست حديثة العهد، منذ أن كتب الشاعر الراحل أحمد شوقي قصيدته «أندلسية»، واستهلها قائلاً:
«يا نائح (الطلح) أشباه عوادينا
نشجى لواديك أم نأسى لوادينا
ماذا تقصّ علينا غير أن يداً
قصت جناحيك جالت في حواشينا».
ثم جاء الباحث والمؤرخ المصري محمد عبد الله عنان، ليكتب سلسلة كتب فريدة من نوعها في تاريخ الأندلس، وهي ليست كتابات عابرة، ولكنها موسوعات مُفصلة، ودائرة معارف شاملة، وتعدّ هذه الموسوعة مرجعية أساسية للمبدعين عموماً.
يضيف يوسف: لعل عبارة: «لا وحشة في قبر مريمة» هي واحدة من الجمل الأدبية الدامغة لما يطلق عليه «أدب الأندلس»، وهي العبارة التي ختمت بها الأديبة المصرية الراحلة رضوى عاشور، واحداً من أبرز أعمالها «ثلاثية غرناطة»، التي استلهمت بها تاريخ الأندلس بكثير من وجوهه وفصوله.
تنقسم رواية عاشور إلى ثلاث روايات، هي: «غرناطة»، و«مريمة»، و«الرحيل»، وتبدأ أحداثها عام 1491، وهو عام سقوط مدينة غرناطة. وانطلاقاً من شهادة الناقد الأدبي الراحل علي الراعي عن تلك الثلاثية بقوله إنها «تجعل حقائق التاريخ تنتفض أمامنا حارة دافقة»، فإن تناول مسألة «الحقائق التاريخية» هو أحد أبرز مفاتيح الكتابة عن «أدب الأندلس»، بوصفه أحد أبرز تحدياته؛ بل مصاعبه... وهو ما يتفق معه الناقد شعبان يوسف، موضحاً أن: «رضوى عاشور استندت على قدمي الواقع التاريخي المدوّن، والخيال الروائي المفتوح، الذي يحتمل كافة التكهنات والتمنيات والحقائق التي تعتقد الكاتبة أنها مجهولة، ومن ثم نجد أنها عوّلت على هذا العصر المفقود، كأنه فردوس للمرأة، فجاءت شخصيات الرواية لتعبر عن ذلك المنحى النسوي، ذلك المنحى الذي تعرّفنا عليه في رواياتها الأخرى، مثل (خديجة وسوسن)، و(فرح) و(أطياف)».
ويتابع يوسف: «من ثم، لم تكن رواية (غرناطة) مجرد استدعاء لزمن قديم، كان المسلمون فيه على قمة المجد؛ بل إنها كشفت عن كتابات تاريخية شبه مجهولة، لتؤكد ما ذهبت إليه في روايتها، وهذا يعني أنها قدمت جوانب لم تكن مطروقة من قبل».
- «حصن التراب»
الروائي أحمد عبد اللطيف، صاحب رواية «حصن التراب»، التي قادته إلى القائمة الطويلة لدورة جائزة «البوكر» العربية لهذا العام، وهي الرواية التي حمل على أجنحتها رسالة عائلة «موريسكية» في لحظات سقوط مدينة «حصن التراب» المتاخمة لغرناطة، إبان لحظات مصيرية تعيسة لسقوط الأندلس، وما تبعها من محاكم تفتيش وتعذيب للمسلمين ووأد لهويتهم. حول هذه الرواية سألناه وتحديداً عن السبب الذي يجعل التناول الأدبي يستعذب الكتابة عن أطلال الأندلس بطعمها المر إلى اليوم، فأجاب: «أعتقد أن الحنين للأندلس هو حنين لزمن التعايش، حنين لزمن كانت فيه الثقافة العربية منتصرة، وكان للعلم مكانته، وللفكر آفاق أوسع؛ لكن الأندلس، مع ذلك، لم تكن عربية صافية؛ لكنها كانت هذا المزيج بين ما هو عربي وما هو أوروبي، ونتاج هذا المزيج كان حضارة عظيمة؛ لكن التناول الأدبي، بحسب اطلاعي، لا يتوقف عند هذا؛ بل يلتفت للسقوط، وللهزيمة، للعنف والتعسف. وإذ يتناول ذلك يفتح الخريطة لمذابح أخرى؛ حيث التاريخ الإنساني كله بداية من قابيل وهابيل. يحدث أن الأدباء حين يتناولون الأندلس يقصدون ما هو أبعد منها، يبحثون عن المعنى وراء الحياة، والجدوى منها».
وحول مسألة ندرة المادة التاريخية كتحدٍّ راسخ أمام هذا النوع من الكتابة، قال عبد اللطيف في متابعة لحديثه: «أن تستلهم عصراً كاملاً الفارق الزمني بينك وبينه عدة قرون، بكل ما فيه من أحداث وشخصيات، وأن تعتمد على كتب تاريخ هي نفسها تتناقض فيما بينها، يجعل العملية صعبة إن استسلمت لفكرة مصداقية التاريخ؛ لكني لا أصدق التاريخ، أتعامل معه كحكايات تدخل فيها الخيال وعمل التحيز بمعوله فيها. لذلك فـ(حصن التراب) ليست رواية تاريخية، إنما تأريخية، والفارق بينهما كبير. التأريخ يعيد قراءة التاريخ على ضوء النقد والتشكيك، يقارن المصادر المختلفة ليصل إلى التناقض، ومن ثم التشكيك في المصداقية. هذه إحدى مزايا ما بعد الحداثة، أنها جعلت كل شيء قابلاً للنقد والتفكيك، وبالتالي القابلية لنظرية أخرى. هذا كان المنطلق الفكري لروايتي، لا أن أقدم ما حدث، وإنما ما كان يمكن أن يحدث، وهذا منحني القدرة على التخيل، أن أخلق شخصيات لا وجود لها، وأن أكتب وثائق تبدو واقعية، وأن أصل للحقيقة المفترضة عبر الخيال وليس الوثيقة».
وحول علاقة الخيال بالواقع والتاريخ، والأدوات التي يمكن أن يستعين بها الكاتب لردم تلك الهُوة الشاسعة بين الواقع والخيال، أضاف عبد اللطيف: «ما من طريقة لفهم ما لم نره إلا تخيله؛ لكن هناك وسائل تساعد على فتح الخيال، مثل القراءة والاطلاع، ومثل السماع، ومثل رؤية ما تبقى من أثر. الحقيقة أنني استعنت بكل ذلك، عشت في المدن التي كتبت عنها، انتقلت بينها وتحدثت مع أهلها، لم يكونوا كرماء جداً في الحكايات القديمة، ثمة حساسية من المسألة لا تزال موجودة، مع ذلك كانت القراءة معيناً لا ينضب، وآثار المدن وأطلالها ومخطوطات الناس كانت كفيلة لدفع الخيال، مع ذلك كان الخيال في النهاية ما يملأ الثغرات، والخيال استطاع أن يصنع ذاكرة وصوراً».
- «قمارش»
حديث عبد اللطيف عن تقفي آثار التاريخ والمشاهدات الحيّة للمدن التي احتضنت مآثر الأندلس، كان بداية الخيط الذي التقطته الكاتب محمود زكي، لإنجاز قماشة عمله الروائي الأول «قمارش»، التي طُرحت في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب؛ حيث يُرجع زكي السبب الرئيسي للإلهام بفكرة الرواية إلى زيارته للأندلس في عام 2016، وانبهاره بالحضارة والمعمار الإسلامي هناك... حول ذلك يقول: «كانت زيارتي تتزامن بالصدفة مع الاحتفال بالعيد القومي لمدينة مالقة، الذي يتم الاحتفال فيه بيوم دخول القشتالة المدينة وطرد الحاكم العربي منها، وهي الرواية التي يتبناها الإسبان باعتبار أن العرب مُحتلون، وأنهم حرروا المدينة بعد 800 عام من الاستعمار، بينما يعدها المسلمون أرضاً مسلمة سقطت، وهو السؤال الذي بنيت عليه عالم الرواية: (هل سقطت الأندلس أم حُررت؟)، وسعيت للإجابة عن هذا السؤال بقراءة مستفيضة في عدد من كتب التاريخ العربية، وأخرى أجنبية، تحكي بلسان الإسبان والغرب كيف ينظرون لفترة الحكم الإسلامي لإسبانيا».
ويستطرد صاحب «قمارش» بقوله، إن فقر الكتب العربية عن الأندلس وثراء الأدب الغربي عن تلك الفترة في المقابل، جعله يقرأ عن أشخاص وحكايات لم يذكرها التراث العربي والإسلامي، مثل شخصية «عمر بن حفصون» على سبيل المثال، وهو زعيم محلي انقلب على المستعمر العربي في فترة عبد الرحمن الداخل. وعدد زكي أبرز المراجع التي اعتمد عليها خلال كتابة روايته، منها كانت «دولة الإسلام في الأندلس» لمحمد عبد الله عنان، و«إغاثة الأمة بكشف الغمة» للمقريزي، و«العمارة الأندلسية والفقراء» لحسن فتحي، ومراجع أجنبية لهيو كيندي، وهينري كيمان، وغيرهم.
أهمية المراجع وندرتها يؤكدها أيضا أحمد عبد اللطيف، لافتاً إلى أن فقر المادة العربية بالمقارنة مثلاً بالمادة الإسبانية التي يتابعها بتأن بحكم اشتغاله كذلك بالترجمة عن الإسبانية للعربية... ويخلص صاحب «حصن التراب» بقوله: «الكتابة عن حضارة الأندلس ظلت مُغرية للأدب الإسباني على مدار التاريخ، فقد كتب عنها أنطونيو جالا (المخطوط القرمزي)، وتأثر لوركا بالأندلس بشكل كبير، حتى أنه كان يقول إنه شاعر أندلسي، أي ابن هذه الحقبة التاريخية، وكتب كثيراً من القصائد في ذلك، وكتب عنها مؤخراً أيضاً مارثيليانو جاليانو عدة أعمال لها قيمتها. ونلاحظ أن المسألة حساسة في المجتمع الإسباني، وخارج الدوائر الأكاديمية والعلمية نادراً ما يتطرقون لمسألة الموريسكيين مثلاً، وإن كانوا يشيرون للأصول العربية لإسبانيا، أو تداخل الهويات من آن لآخر. أظن أن الأندلس، رغم كونها تاريخاً مشتركاً، إلا أنها سؤال الثقافة العربية بالأساس».
المقالات
كتابات وآراء
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر