أديب الجناني .. الصحفي الذي اغتالته يد الارهاب الحوثي في مطار عدن
"ليل موحش .. سواد يخيم على كل شيء أمامي .. يخطر ببالي أن كل العالم مكسور مثلي .. الوداع يا اديب، حملناك على اكتافنا لكننا لم نستوعب فراقك بعد".
بهذة الكلمات الموجعة ودع المصور الصحفي "طه صالح" زميله ورفيق دربه الصحفي "أديب الجناني" الذي أستشهد في الهجوم الإرهابي الذي استهدف مطار عدن الدولي أثناء وصول حكومة الكفاءات السياسية يوم الأربعاء الماضي 30 ديسمبر من العام 2020.
"اديب الجناني" شاب مكافح، ينحدر من قرية نائية تسمى "شبيه" غرب مديرية جبل حبشي التابعة لمحافظة تعز، كان حالما مثقل بالهم، كبيراً في تجاوز عقبات الحياة، تعتمد عليه اسرته كثيرا في إعالتها، أب لخمسة أطفال أصغرهم عمره عامًا واحد.
خرج أديب من قريته والتحق برفاقه في القرية المجاورة "الأشروح" حيث درس هناك حتى انهى مرحلة الثانوية العامة، ثم التحق بالمدينة ليشق طريق الجامعة.
"أديب" كما يصفه زميله الاعلامي "احمد النويهي"، ينتسب للجموع المسحوقة من ابناء هذا البلد .. بطبعه القروي المبرأ من غبار الكلام قدم رسالته الإعلامية بصدق وتحرى كل كلمة ارسلها لمواقع العمل التي اشتغل لها ومن خلالها .. وببساطته وسحنته السمراء كان يمنياً بإمتياز، تدفق صوته المتشبث بلكنة باديته وريفه الأكثر طهراً من أوحال المدنية الرثة في ابشع صورها.
عاش اديب محافظاً على نقاوته، كان يتدفق غزيراً كما تدفقت روحه حين تقدم الصفوف وقت انهمار الصواريخ ليدون لحظة انتصار عاشتها المدينة التي عشقها واحبها وسكنها جوار البحر.
يوم الأربعاء 30ديسمبر 2020، كان اديب في مهمة إعلامية لتغطية حدث وصول الحكومة الجديدة الى عدن، كان صباحه مختلفاً تماماً في ذلك اليوم كما يقول رفاقه، فقد بدا سعيداً بعودةً الحكومة، ويحدوه الأمل أن تتحسن الأوضاع بعودتها ويعم الأمن والسلام، وتستكمل مسيرة التحرير وتشرق شمس ذلك اليوم الذي يعود فيه لقريته ويزور أهله وعشيرته كما كان يحلم ويمني نفسه، ولم يكن يعلم أن الأماني في زمن الحرب حرام.
حرص اديب على القدوم الى مطار عدن الدولي من الساعات الأولى لصباح الأربعاء، ينتظر بشغف وابتسامة وتفاؤل لحظة هبوط الطائرة التي تقل أعضاء الحكومة .. لم يكن يعلم أن حياته ستنتهي عند هبوطها، وأن ذئب بشري يرقبه من بعيد، ويعد الدقائق والثواني ليغرس مخالبه الشيطانية في أجساد الأبرياء.
بدأ اديب تغطيته الإعلامية فور هبوط الطائرة، حيث ارتبط ببث مباشر لقناة "بلقيس" التي يعمل مراسلاً لها، وبينما هو منهمك في الحديث عن الحكومة ومراسيم استقبالها، بدأ الهجوم الصاروخي الغادر على مطار عدن المكتظ بالمدنيين، سقط الصاروخ الأول، حاولت المذيعة أن تحذر اديب وتطلب منه الابتعاد عن مكان الانفجار ، لكنه لم يكن ليسمعها بسبب الضجيج الذي اعقب الانفجار وأزيز الرصاص.
"الحكومة لم تنزل من الطائرة" كانت هذة اخر عبارة قالها اديب الجناني، تبعها صوت انفجار عنيف، وانقطع الاتصال بأديب .. ولكم أن تتخيلو والدته في تلك اللحظات، زوجته وأطفاله وهم يتابعون اللحظات الأخيرة من حياة "اديب".
هل مات "اديب".!؟ والدته المكلومة تسأل نفسها، وبين الخوف والقلق والرجاء والتمني ظلت الأم المسكينة تطوف في المنزل وتتعثر هنا وهناك وهي تبحث على من يطمئنها على فلذة كبدها ونور بيتها، كانت الآمال والأمنيات تروادها، ربما يكون اديب جريح، وتفيق من غيبوبتها وتردد :"لا لا، اديب بخير" وترفع أكفها نحو السماء تناشد الرحمن أن يعيده لها سالماً معافى.
لم تكن "والدته" لتتقبل فكرة أن يكون جريح، فكيف يا ترى تقبلت خبر استشهادة ورحيله عن الحياة!؟ .. لمنها ارادة القدر التي اختارته ضمن ضحايا ذلك الحادث الاجرامي الغادر.
رحل أديب الذي دمر الحوثيين منزله في جبل حبشي، وهجروه من قريته هو واقاربه قبل أعوام، وهاهم اليوم يخطفون حياته ويوؤدون أحلامه ويسلبون البسمة من شفاة أسرته ويمنحون أطفاله لقب "اليتم" مدى الحياة.
دفع أديب ثمن مواقفه الصادقة واخلاصه لوطنه، كما يقول زميله الإعلامي "رامز الشارحي" ، وبأتت اليوم اسرته الكبيرة نازحة في عدن، وإن عادوا لقريتهم بعد انتهاء الحرب، سيعودون على خراب ودمار واسع .. إذ كيف لهم كل هذا وقد رحل عمود الأسرة الذي تحمل اعباء الحياة بعد وفاة والده.
يومين مضت على الجريمة الغادرة التي راح ضحيتها اديب والعشرات من المدنيين .. أقترب الوداع الأخير .. وفي يوم الجمعة 1 يناير من العام الجديد 2021، حملت سيارة الاسعاف جسد الشهيد الطاهر متوجهةً نحو مدينة تعز .. عاد أديب الى مدينته التي ولد وترعرع فيها، لكنه هذة المرة لم يعد مبتسماً كالمعتاد، بل انه عاد اليها جسداً بلا روح، حوله الأهل والأحباب والأصحاب، تنهيدات أمه يسمع صداها من بعيد، حشرجة زوجته، صراخ اطفاله، دموع زملائه وأصدقائه، وجع مدينة بأكملها كان يرافق جثمانك الطاهر يا اديب.
ولانه كان محل احترام وتقدير الجميع فقد احتشد المئات لوداعة ومواراة جثمانه الثرى .. امتلئت مقبرة "السعيد" بالمشيعين، حضر المواطنين من كل حدب وصوب ليلقوا عليه سلام الوداع.
زملاءه الصحفيين التقوا في زاوية منعزلة بالمقبرة وقفوا بصمت وعلامات الذهول ظاهرة على محياهم من هول الفاجعة، بدوا غير مستوعبين أنه رحل عنهم الى غير رجعة .. زميله وابن منطقته الصحفي "رامز الشارحي" وقف على قبره وعيونه مغرورقة بالدموع وهو يمني نفسه أن ينهض من قبره ويذهب معه، ظل يخاطبه الى القبر ويترجاه بدموع الحسرة والوجع: "هيا انهض يا اديب لنذهب، أدهش هؤلاء رفاقك أصحاب القبعات الزرقاء، اخبرهم أن المشوار لم ينته بعد ومازلت باستطاعتك حمل الرسالة ومناصرة القضية".
عاد الجميع من جنازة فقيد الصحافة اديب الجناني متوشحين ثياب الحزن والوجع، عادت أمه والعبرات تخنقها والدموع تغطي خديها البريئة .. عادت زوجته منكسرة وحيدة، وعاد اطفاله يبحثون عنه في زوايا المنزل، ينادون عليه ليخرج اليهم من بين كومات الملابس التي كان يختبئ عليهم فيها، دون ان يدركوا أنها تحولت مع الاسف إلى كومات من الوجع .. وجع لا يسقط بالتقادم .. بأي ذنباً قتلوك؟!!.
المصدر : الميناء نيوز